ولدت في سورية، تنفست هواءها وشربت ماءها، درست في مدارسها وجامعاتها، حفظت أزقتها عن ظهر قلب، لكن ذلك لم يكن كافياً، كما يبدو، لمنح (كريستين) هذه البطاقة التي تعترف بسوريتها .. “أنا بلا هوية. فوالدي الذي لا أعرف عنه شيئاً ولم أره طوال حياتي فرنسي الجنسية. في طفولتي لم أشعر بهذا الفارق الكبير بين أن تكون أمي سورية وأبي فرنسياً. ولكن بعد أن كبرت ودخلت الجامعة، عرفت حجم المصيبة، أحسست بالقهر حقاً. فأنا بالفعل كما يقولون بلا هوية وكأنني غير موجودة”.
ربما لو عرفت والدة كريستين أن زواجها من رجل فرنسي سيعرض ابنتها إلى تحمّل كل هذه المعاناة، لعدلت عن هذه الفكرة نهائياً، ولفضلت البقاء في منزل والديها على أن تتحمل نظرات اللوم من ابنتها الوحيدة. أما كريستين، فترى أنها تدفع في كل يوم ثمن زواج والدتها من رجل أجنبي. ذلك أن دراستها في كلية الهندسة، من ثم التخرج لم يشكل بالنسبة إليها إنجازاً كبيراً كباقي زميلاتها. فالانتساب إلى النقابة مرفوض تماماً لأنها لا تملك الجنسية السورية. وهي مضطرة أن تعمل في غير اختصاصها للحصول على مبلغ يساعدها ووالدتها للعيش بكرامة. في المقابل، استطاع عماد أن يمنح الجنسية إلى أبنائه الموجودين في روسيا، على الرغم من أنهم لم يولدوا في سورية، ولا يعرفون موقعها على الخارطة في العالم. فانتماؤه إلى الذكورة كان أقوى من أي قانون جنسية أو سواه .. إنه الرجل والقانون دائماً إلى صفه. أما المرأة، فربما تحتاج إلى أن ترفع صوتها عالياً، لتطالب بمساواتها مع الرجل، من دون أن يعني أن هذا الصوت سيلقى آذاناً صاغية. فأية تساؤلات واحتمالات فرضتها الظروف على هذه المجموعة من النسوة السوريات اللواتي تزوجن رجالاً لا يحملون الجنسية السورية .. وأي مصير ينتظرهم وأبناءهم الذين ينطبق عليهم المثل القائل “الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون” (لما) إحدى هؤلاء السوريات اللواتي وقعن في هذا المأزق، تقول: “أنا مواطنة سورية، ومن حقي منح الجنسية إلى أبنائي أياً كانت المبررات؛ لطالما بنيت هذا البلد. لكني لم أستطع أن أمنح أبنائي تلك الورقة الرسمية. وأقف عاجزة أمام تساؤلاتهم التي تؤرقني. وتجعلني أتساءل: هل حقاً أنا مواطنة سورية؟ وهل الجميع متساوون في الحقوق والواجبات، كما ينص القانون؟ وهل الدم الذي يسري في عروقي غير كاف لأمنح أبنائي حق العيش في الأرض التي ولدوا فيها، وتربوا وتعلموا في مدارسها؟” ليست (لما) وحدها في هذا المأزق، وربما هذا ما يخفف مصابها، بل الكثير من النساء السوريات اللواتي يقفن عاجزات أمام القانون، وقبل كل شيء أمام أبنائهن. ولا يستطعن فعل أي شيء سوى الانتظار، والترقب علّ قانوناً يصدر، فيؤكد أنهن نساء سوريات يحق لهن ما يحق للرجل. دون أن يشعرن أنهن غير قادرات على تحمل صعوبة ذلك السؤال الدائم؛ متى سيحق لنا أن نعطي أبناءنا الجنسية السورية؟ لنحميهم من متاهة الدخول في الحصول على الأوراق الرسمية والروتين المعقد في الدوائر الرسمية وقبل كل شيء ليشعروا بمواطنيتهم وانتمائهم إلى هذا البلد الذي أحبوه وتشربوه في دمائهم قبل أن يُسكنوه قلوبَهم. لا استثناءات في القانون السوري دخلت قضية منح الجنسية لأبناء السوريات قبة مجلس الشعب أكثر من مرة، من دون أن يخرج المجلس بنتيجة نهائية حول هذا الموضوع. ذلك أن مبررات الحكومة السورية في عدم منح الجنسية السورية تعود إلى سبب رئيس يتعلق بالفلسطينيين الموجودين داخل الأراضي السورية، وضمان حق العودة لهؤلاء اللاجئين، وبالتالي فإن القانون السوري شامل لكل الحالات والظروف، ولا استثناءات فيه. وبحسب الدكتور محمد حبش عضو مجلس الشعب، فإن مسودة المشروع النهائية قيد الإنجاز لتناقش في المجلس بعد أن رفضت هذه المسودة لمرتين. ذلك أن المسودة النهائية تجاوزت العراقيل التي كانت موجودة في مسودة مشروع القانون في المرات السابقة، وبالتالي يمكن منح الجنسية لأبناء السوريات بما لا يتعارض مع قرارات القمم العربية. ويضيف حبش: “هناك مشاكل كثيرة، وذات أهمية يعاني منها أبناء السوريات المتزوجات من غير سوري. لذا من الضروري أن يتمتع هؤلاء الأبناء بجنسية أمهاتهم، من دون أن يحرموا من حقوقهم في البلد الذي تربوا وعاشوا فيه منذ ولادتهم”. أنا سوريّة.. وأبنائي ليسوا كذلك تتجسد المشكلة الأساس في التفاصيل والطريقة التي يعيش ضمن ظروفها أبناء السوريات، ومعظمهم لا يستطيع الحصول على أية ورقة تثبت انتماءه إلى البلد الذي يعيش فيه. فخالد شاب يدرس في كلية الحقوق، أمه سورية ووالده عراقي الجنسية. وهو يفكر منذ أن دخل الجامعة في الطريقة التي سيمارس على أساسها مهنة المحاماة؛ فالتسجيل في النقابة غير مسموح فيه بعد التخرج، لاسيما أن رئاسة مجلس الوزراء منعت في الآونة الأخيرة تجديد الأوراق الثبوتية للعراقيين المقيمين في سورية، بسبب وجود سفارات بين البلدين، وبالتالي إمكانية منح أوراق ثبوتية لمن لا يحمل هوية أو جواز سفر، أمر صعب للغاية، إن لم يكن مستحيلاً. ويعتبر البعض أن السبب الرئيس في اتخاذ الجهات صاحبة العلاقة لهذا القرار يخضع إلى اعتبارات ذات علاقة بفرض العودة على العراقيين المقيمين في سورية. وهذا يفرض أيضاً تساؤلاً آخر.. فكيف يمكن للعراقيين المقيمين منذ سنين بعيدة في سورية، السفر إلى بلدهم الأم دون جواز سفر، أو هوية، أو أية ورقة رسمية؟.. إذاً هناك إشكالية كبيرة في رأي بعضهم من العراقيين المقيمين في سورية. ذلك أن عدم إمكانية منح الأوراق الثبوتية في الوقت الحالي يشكل نوعاً من الضغط النفسي السلبي، لاسيما أن القرار لم يستثن أحداً من الموجودين منذ مدة طويلة في سورية. ومن هنا، فإن القرار لم يكن مدروساً على نحو كاف. قرار صعب ما بدا واضحاً أن أعضاء مجلس الشعب قدموا مسودة مشروع القانون، من دون أي اعتراض من قبل أحدهم على ما تضمنته مسودة القانون. في الوقت ذاته يتصور البعض أنه من الصعوبة بمكان أن تستطيع الحكومة اتخاذ قرار منح الجنسية في ظل وجود الفلسطينيين في سورية. وبحسب المحامي أنس الشامي عضو مجلس الشعب، فإن الحكومة يجب أن تأخذ في اعتبارها بعض الاستثناءات والحالات الإنسانية الخاصة، أو إصدار القانون على ألا يشمل اللاجئين الفلسطينيين؛ لضمان حق العودة، مشيراً إلى أن أعضاء البرلمان حاولوا أكثر من مرة التطرق إلى المشاكل المترتبة على قانون منح الجنسية، مثل حق أن تورث الأم أبناءها، وكيفية نقل العقارات وغيرها الكثير. وختم الشامي بالقول: “القانون سيرى النور عاجلاً أم آجلاً، لكنه يحتاج إلى دراسة معمقة وكافية حتى يستكمل جوانبه كافة”. إنه الرجل.. الرجل « دمه السوري.. أعطاه الحق في منح الجنسية إلى أبنائه الذين يعيشون في نيويورك منذ ولادتهم. وهم الآن لا يعرفون عن سورية أي شيء. تقول سميرة تزوج ابن أختي من أمريكية، وهو الآن مقيم في نيويورك. لكن لأنه رجل استطاع منح الجنسية إلى أبنائه. أما أبنائي، فلا.. وهم الذين عاشوا في كنف سورية منذ نعومة أظفارهم ولا يعرفون بلداً غيرها. وكثيراً ما يرددون أمامي أنهم ضاقوا ذرعاً بهذه الحال. ولم يعد في الإمكان تقبل هذا الوضع. فلا هوية ولا جنسية. فأية حياة قاسية في انتظارهم، حتى إنني لا أستطيع في حكم القانون أن أورّثهم شيئاً من أملاكي. فإما أن أبيعها إليهم، أو تباع في المزاد العلني خلال مدة عام. وكل ما أسمعه من الحكومة هي تعجيز وامتهان لحقوقي كامرأة لا أكثر. استثناءات فقط تُعد سورية من أكثر الدول صعوبة في إصدار قانون منح الجنسية، ذلك أن الكثير من الدول العربية مثل المغرب والجزائر ومصر قررت أن تمنح الجنسية إلى أبناء الأمهات المتزوجات من رجل أجنبي؛ الأمر الذي فسره عماد غليون عضو مجلس الشعب بالخصوصية والحساسية في صدور قانون يشمل كل الحالات، لا البعض منها فقط، على الرغم من أن مشروع القانون نال الرضى والقبول من أعضاء البرلمان والجمعيات النسائية وكل الأوساط الاجتماعية في سورية. غير أن غليون لم ينكر وجود حالات مستعجلة وخاصة، مضيفاً: “يجب البدء في إيجاد صيغة بالنسبة إلى الحالات الخاصة دون انتظار أن يصدر القانون، على أن تكون أسباب المنح موضوعية تنظر في حالات إنسانية بالفعل، وهي كثيرة جداً”. وأشار غليون إلى أن مشروع القانون غير مطروح حالياً للنقاش في مجلس الشعب، لكن نواب البرلمان يطالبون دائماً في لحظ الحالات الخاصة. إيجابية أن يناقش القرار بسام القاضي، مدير مرصد نساء سورية، أشار إلى إيجابية أن يفتح موضوع النقاش في منح الجنسية لأبناء السوريات، خاصة وأن أغلب السوريات متضررات من زواجهن من عربي أو أجنبي. وقال القاضي: “تطفو على السطح مشاكل لها علاقة في السوريات المتزوجات من عرب وأجانب ويعشن في سورية، من دون أن يحظى أبناؤهن بالجنسية السورية، حيث لا توجد أرقام أو إحصاءات يمكن الاعتماد عليها حول أعداد هؤلاء النسوة أو الأبناء المحرومين من الجنسية”. في حين أن رابطة النساء السوريات أطلقت حملة في العام 2005 حول حق المرأة في منح الجنسية لأبناء السوريات. وتضمنت بنود هذه الحملة بحسب صباح حلاق أن المواطنين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، وأشارت إلى الاتفاقيات الدولية التي التزمت بها سورية، بخاصة اتفاقية إزالة كل أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل التي تؤكد حق كل فرد في التمتع بجنسية ما. وبما أن قانون الجنسية السوري قد كفل حق الجنسية لكل من ولد فقط من أب سوري في الداخل أو الخارج، فمن العدل أن تمنح المرأة الحق ذاته. وأضافت حلاق: “طالبنا بتعديل المادة /3/ الفقرة /ب/ منها، بحيث يصبح منح الجنسية لكل من ولد من أب سوري أو أم سورية، وانضم إلينا في هذه الحملة 35 عضواً من البرلمان والآلاف من النساء السوريات المتزوجات من غير سوري. ورغم ذلك لا توجد إجابة رسمية من قبل الحكومة”. صعوبة التجنيس تفرض قضية اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في سورية. إشكاليات كثيرة يراها بعضهم مبرراً في الصعوبات القائمة في منح الجنسية لأبناء السورية، على ألا يكون مبدأ التجنيس مفتوحاً. المحامي تمام حسن أشار إلى أن قانون منح الجنسية يخضع إلى اعتبارات إجرائية بحتة. والمشكلة الأساس في رأي الحسن أن فتح باب التجنيس من أوسع أبوابه دون قيود يفرض مشاكل ويضع صعوبات كبيرة أمام الحكومة؛ ذلك أن حالات زواج السوريات، لاسيما من الدول المجاورة كثيرة جداً. ومن أساسيات القانون الجيد أن يشمل أكبر فئة من الناس. وأضاف حسن: “من الضروري ألا يصدر القانون قبل دراسة شاملة وواسعة للأوضاع الحساسة. ذلك أن سورية تعاني من كثافة سكانية، وتزايد سكاني مستمر، بالإضافة إلى قلة فرص العمل بالنسبة إلى السوريين أنفسهم”. قرروا من أجلهن المعاناة مستمرة والمفارقات كثيرة .. والنساء السوريات في انتظار أن يصدر القانون، لمعرفة مصير أبنائهن. الضرورة وحدها والظروف الملحة لأبناء هؤلاء النسوة تفرض على الحكومة البت في القانون.. ودون أي تأجيل. فنواب البرلمان أعدوا مسودة القانون. بقي أن يصدر الحكم في نساء عشن على أرض سورية وولدن فيها. ومن حقهن معرفة الإجابة عن تساؤلهن المشروع؛ متى يمكن أن نمنح أبناءنا الجنسية السورية؟. عتاب حسن بلدنا |