المحتويات
· الرابطة في المعركة
· بيت لا مكان فيه للدموع
الرابطة في المعركة
ساهمت رابطة النساء السوريات لحماية الأمومة الطفولة رغم إمكانياتها المتواضعة ببعض الجهود في معركة الصمود والتحرير ورد العدوان الإسرائيلي البربري الغادر عن أرض الوطن، ولم تدخر عضواتها جهداً إلا وقدمته مخلصة من أجل المعركة.
فمنذ الساعات الأولى لبدء العدوان وصمود جيشنا أمامه وخوضه معركة الحرية والشرف بعثت الرابطة إلى الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي رسالة تطلب منه التدخل والدعم عالمياً.
ومنذ اليوم الأول وخلال أيام المعركة أصدرت الرابطة بيانين وزعتهما على نطاق واسع بينت فيهما الدور الهام الذي يمكن أن تلعبه جماهير النساء في المعركة وتحدثت عن الصفحات الناصعة التي سجلها شعبنا وجيشنا في رد العدوان المدعوم من الإمبريالية الأمريكية والذي يستهدف التوسع وتدمير القرى والمدن الآمنة ودعت النساء ليكن عوناً لجيشنا الباسل والعمل في خدمته وخدمة الاقتصاد الوطني والاعتزاز ببطولة أفراده.
وقد قامت عضوات الرابطة بزيارات للبيوت شرحن لجماهير النساء أهمية المعركة الوطنية وضرورة دعمها والوقوف إلى جانب جيشنا البطل حتى يتحقق النصر، وتعزيز الجبهة الوطنية الداخلية، وعدم السماح بإيجاد ثغرة بين أبناء الشعب يمكن للعدو النفاذ منها، وبيّن أهمية دعم الاقتصاد الوطني، وتوفير المواد الغذائية والتموينية، وتنظيم الحصول عليها مع عدم التزاحم. وأوضحن كيف يمكن التصرف أثناء حدوث قصف أو غارة.
وبذلك ساهمت الرابطة في تعبئة جماهير واسعة من النساء سياسياً وإعدادهن معنوياً ورفع مستوى الصمود لديهن.
وقد تطوعت العديد من عضوات الرابطة في المستشفيات ومراكز الإسعاف الأولي من أجل خدمة الجرحى ومساعدتهم، وقد عمل العديد منهن ليلاً ونهاراً وتفانين بالعمل من أجل إنقاذ الجرحى وتضميد جراحهم ومواساتهم وتحضير الطعام لهم.
كما قدمت عضوات الرابطة في أيام العيد الهدايا الرمزية للجرحى تعبيراً منهن عن الامتنان والشكر للأبطال الذين يسترخصون حياتهم فداء للوطن.
وسعت الرابطة بإصرار لتوحيد طاقات النساء في هذه المرحلة الدقيقة من أجل بلادنا فأجرت عدة اتصالات بالمنظمات النسائية والوطنية الأخرى وخاصة الاتحاد العام النسائي.
وشاركت فروع الرابطة في مختلف المحافظات بنشاطات عديدة ففي حلب، قام فرع الرابطة بنشاط جماهيري واسع فعقدت اجتماعات جماهيرية نسائية شرح فيها التدابير التي يجب أن تتخذ أثناء الغارات، ووجوب محاربة الشائعات وعدم الاستماع إليها. وقام بحملة من أجل التطوع في الدفاع المدني والتبرع بالدم. وقد تطوع عدد من الرابطيات في الدفاع المدني وسارع الكثير منهن للتبرع بالدم.
كما سارعت الرابطيات في طرطوس للتبرع بالدم وساعدن في أعمال الحراسة، وقمن بزيارة الجرحى في المستشفيات وساهمن في تفريغ شحنات البضائع من البواخر في المرفأ.
أما في اللاذقية فقد اتصل فرع الرابطة بفرع الاتحاد العام النسائي وتشكلت لجان مشتركة للدفاع المدني، وساهم في محاربة الشائعات، وزار الجرحى في المستشفيات وقدم لهم الهدايا الرمزية.
وفي مناطق حوران والقرى الأمامية ساعدت الرابطيات الجرحى وقمن بإسعافهم وتحضير الطعام لهم وساهمن في تنظيف الملاجئ ورفع معنويات السكان.
أما الرابطيات في المعامل فقد تابعن العمل إلى جانب العمال من أجل استمرار الإنتاج، بالرغم من سماح المسؤولين لهن بالتغيب.
وهكذا فقد عملت الرابطة جاهدة في مشاركة الشعب والجيش من أجل الدفاع عن الوطن وفي سبيل تحرير أرضنا المحتلة.
بيت لا مكان فيه للدموع
مع زوجة الشهيد: محمد نصر
سمعت بها كثيراً قبل أن أراها… شجاعتها وبسالتها على كل شفة ولسان ليس فقط في حيها بل تعدته إلى أحياء أخرى. موقفها البطولي هز القلوب وبعث الاعتزاز والفخر في نفوس كل من سمع بها.
ذهبت إليها وقدمت نفسي لها.. بمنتهى اللطف واللباقة شكرت لصوت المرأة لفتتها واهتمامها أخبرتها أننا فخورات جداً بها… وسعيدات لأن بين نساء شعبنا مثلها… وأننا نريد من تسجيل حديثها أن تكون قدوة ومثالاً يحتذى.
أجابت بسرعة: إنني لم أفعل شيئاً أنا فخورة إلى أبعد الحدود لكوني زوجة شهيد قدم أغلى ما يملك، وضحى بي أيضاً في سبيل الوطن الذي نحب ونقدس… أنا أفخر بمحمد وأعتز به وكم أتمنى لو بإمكاني أن أتبعه على الطريق الذي سار عليها.
مهما يكن لوقع الحديث على من يقرأه على الورق لن يكون كما لو أنه سمعه يخرج من قلب مفعم بالحب والإخلاص والتضحية.. لم يتهدج صوتها… ولم تتعثر كلمة على شفتيها… بكل هدوء واتزان كانت تتحدث… بكل كبرياء وفخر واعتزاز كأنها تقول للعالم: هل لدى أحدكم أعلى وأعز مما قدمه محمد يستطيع تقديمه فداء للوطن والحرية؟
رغم ذلك أشفقت أن أوجه إليها سؤالاً يمس حياتها مباشرة مع الزوج الحبيب الذي رحل إلى الأبد… إلا أن ابتسامتها الهادئة التي لم تفارق ثغرها خلال وجودنا شجعتني.. قلت لها: حدثينا عن محمد.. عن حياتك معه.
بنفس الهدوء واللهجة السابقة أجابت وهي تنظر إليه عبر الصورة المعلقة على الجدار نظرة تحمل الكثير الكثير من الحب والاعتزاز والتقدير كأنها تستشهده على ما تقول: لقد تعلقت بمحمد منذ كنت في الثامنة من عمري بعد وفاة والدي لكونه ابن عمي أيضاً… كنت أنظر إليه نظرتي لشيء كبير جداً وعظيم ورائع… كان يحدثني بعد أن كبرنا عن أحلامه وأمانيه، وكلها تدور حول الوطن وحب الوطن وروعة التضحية في سبيله… وكيف سيكون طياراً يحمي سماء الوطن… ويلقي الرعب في نفوس أعدائه… كان يتحدث باستمرار عن الشهداء وكأنه يحسدهم لكنه لم يتخرج طياراً بل مهندس ألغام من الكلية الحربية. وبعد أن أخذت “البكالوريا” في العام الماضي تزوجنا. وبعينين باسمتين رائعتين هما أجمل ما في ذلك الوجه الذي يحمل كل صفات الجمال التي اشتهرت بها بنات جبل العرب، نظرت إليه وكأنها تقول: أتذكر يا محمد؟ وتابعت: كان يقول لي دائماً: ستكونين فخورة لكونك زوجة شهيد إن حصلت على هذا الشرف، عديني بذلك وكنت أعده… وها أنا ذا أنفذ وعدي… وقبل المعركة بأيام قال لي: يا مها ربما حصلت معركة في القريب العاجل فالعدو يحشد قواته وربما ذهبت ولم أرك آمل بدوري أن أفخر بك… إن الجبهة الداخلية لا تقل أهمية عن جبهة القتال… فلا تتركي مجالاً إلا وطرقتيه… بذلك ستكونين معي دوماً وأكون معك.
ربما لاحظت مها على وجهي نظرات الإعجاب والاعتزاز الشديدين ممزوجتين بشيء من عدم التصديق إذ كيف يمكن لابنة التسعة عشر ربيعاً أن تتحدث بهذا الشكل الرائع الذي تجلت به رباطة الجأش… والتضحية ونكران الذات في أحلى وأجلى صورها. فقالت ونظرة ذكية تلمع في العينين الجميلتين: لا يوجد إنسان مجرد من العاطفة. ولو أن محمداً مات. لوجدتني على غير هذه الحال ولما جفت دموعي لحظة واحدة لكن محمداً استشهد ولم يمت وهذا ما يجفف دموعي عندما تقدم لإبعاد القنبلة، التي انفجرت به، أمام مقر قيادة احد مطاراتنا العسكرية قائلاً لزملائه الذين حاولوا منعه: إن قيادة المطار أغلى دون شك من حياتي… في تلك اللحظات كان محمداً واثقاً بي فهل يمكن أن أكون غير جديرة به…
التفت إلى الأم… تلك الإنسانة الرائعة الصامدة تطوق حزنها العميق بين جنبيها… وتواجه الدنيا بنظرة شجاعة باسلة… وقلت لها: إن مثل هذا البيت وتلك الأم لجديران بتخريج مثل هؤلاء الأبناء الذين يرفعون رأس شعبنا عالياً ببطولاتهم تضحياتهم… ولعل في ذلك خير عزاء لنا جميعاً. أجابت دون تردد: إنهم أبناء هذا الوطن وتربيته هو الذي رباهم، وهو الجدير بأن يقدموا أرواحهم فداء له. بماذا يمكن أن أرد على مثل هذه الأم…
وعدت إلى الزوجة الصبية التي كانت حديث الحي كله ببسالتها أسألها عما إذا كانت تريد أن توجه كلمة لقارئات صوت المرأة أجابت: لي كلمة مع نساء الشهداء أرجو منها أن تتسلح بالصبر وتستمد من شهادة زوجها مزيداً من الصلابة والشجاعة لتربي أطفالها إن وجدوا وتجعل من حياة أبيهم واستشهاده مثلاُ أعلى لهم يهتدون به في كافة مراحل حياتهم كي تخلق منهم أبطالاً ومواطنين يكونون أهلاً لأبوة البطل الشهيد.
لم أجد كلمات أشكر بها السيدة مها زوجة الشهيد محمد نصر… فمهما قيل سيبدو دون شك هزيلاً أمام ما سمعته منها. عندما خرجنا قالت لي زميلتي: أرأيت إن كلمة التعزية لا مكان لها في هذا البيت البطل. وكان هذا كل ما يمكن قوله فقد كان الأثر الذي خلفته الزيارة في قلوبنا أعمق بكثير من أن يحول إلى كلمات على ورق.