المحتويات
· دروب الآلام
· وفد من مكتب دمشق لرابطة النساء السوريات لحماية الأمومة والطفولة يزور مخيم المشردين اللبنانيين
دروب الآلام
اسمي نعمة عبد الغني. أنا فلسطينية ولدت في بلدة صفد في شمال الجليل الذي كان عربياً في تلك الأثناء. كان أبي مزارعاً يملك قطعة أرض. وتغير كل شيء، سرعان ما ظهر المهاجرون اليهود في بلدتنا. وأخذوا يطالبون أبي ببيع أرضه، وهددوا بقلته إذا رفض بيعها. لم يوافق على بيع الأرض. وذات يوم لم يعد إلينا ولم أره بعد ذلك.
منذ تلك الأثناء بدأت مصائبنا وتشردنا. اضطررت أنا وأمي للرحيل إلى القرية المجاورة. وبعد إقامة دولة إسرائيل اضطررنا إلى مغادرة فلسطين بشكل كامل لأن الإرهاب أصبح لا يحتمل.
أصبح التشرد وحياة المخيمات للاجئين الفلسطينيين في الأردن ثم في لبنان مصير مئات الآلاف من الفلسطينيات الأخريات. وقد تنقلن مثلي من مخيم إلى آخر وتزوجن هناك وأنجبن الأطفال. عدد أولادي أربعة عشر ولداً. يقاتل ثلاثة منهم مع أبيهم المحتلين الإسرائيليين في بيروت، وكنت وبقية أطفالي في الدامور عندما بدأت الحرب.
كانت الغارة الأولى للطيران الإسرائيلي مفاجئة لدرجة أنني لم أجد الوقت الكافي للنزول إلى القبو مع أطفالي. ولم تتوقف الغارات الجوية والقصف المدفعي يومين على التوالي. وبعد الطيران جاء دور السفن البحرية ثم لعلعت أصوات المدافع الإسرائيلية وعادت الطائرات القاصفة من جديد. وعندما حل الهدوء أخيراً كانت هناك خرائب وأطلال يتصاعد منها الدخان بدلاً من المدينة. جهزت أطفالي بسرعة وانطلقنا إلى الشمال. وهنا بدأت أرهب اللحظات. أدركتنا الطائرات على الطريق وبدأت ترمينا بالقنابل رغم أنه كان واضحاً أن الطريق يسير عليها النساء والأطفال فقط.
لاجئة أخرى، امرأة شابة تجلس بالقرب من نعمة تستطرد: “لقد كانوا يطلقون النار حتى على سيارات الإسعاف التي رسم عليها الصليب الأحمر. لقد أنقذ المقاتلون كثيراً من الأطفال من تحت الأنقاض وتقرر نقلهم إلى مناطق آمنة. وضع الأطفال في سيارات الإسعاف وما أن انطلقنا من الدامور حتى انقضت علينا طائرة فانتوم إسرائيلية بالصواريخ. لم يبق أي طفل من الأطفال على قيد الحياة، لقد حدث هذا أمام أعيننا”. ثم تقول المرأة الشابة التي لم ترغب بذكر اسمها لأن زوجها وأخواها الكبيران يحاربان في صفوف الوطنيين اللبنانيين قررنا بعد ذلك الانتقال مع أطفالي بطرق فرعية. لقد استغرق طريقنا إلى دمشق أكثر من أسبوع سيراً على الأقدام تارة وعلى سيارات عابرة تارة أخرى.
إن إسرائيل قررت إبادة الناس والقضاء عليهم خلال أيام معدودات مستخدمة خلال ذلك جميع الأسلحة حتى تلك التي تحرمها المعاهدات الدولية. غير أن الناس الذين اجتازوا أهوال الحرب لا يشعرون بالخوف القاتل الذي بنى الزعماء الصهاينة مخططاتهم على أساسه.
وفد من مكتب دمشق لرابطة النساء السوريات لحماية الأمومة والطفولة يزور مخيم المشردين اللبنانيين
– لم يبق في عائلتنا رجل… لقد قتلوا جميعاً…
هكذا استقبلتنا سيدة قد تخطت الستين من العمر، أو ربما خيل إلينا ذلك، لكأنها شبح ينهض من بين الأنقاض. أسرعنا إليها وقد تهالكت فوق بساط مد فوق أرض ترابية جافة، داخل خيمة من خيام المشردين اللبنانيين.
– أنا من خلدة “لقد قتل زوجي سنة خمس وسبعين على يد الكتائب، وقتل الغزاة الصهاينة أبنائي الثلاثة في عدوانهم هذا… ابني الأكبر كان مقاتلاً باسلاً، أما الآخرون فهما صغيرات تركا مقاعد الدراسة وغابا عني إلى الأبد. وابنتي قتل زوجها وترك لها سبعة أولاد. لم تنجو هي فقد أصابتها شظية بترت ساقها…
كيف نواسي تلك المرأة المنكوبة لن تستطيع الكلمات إعانتها، إنها ضعيفة مريضة لا تستطيع أن تزاحم كي تأخذ نصيبها من المعونة. تبقى في المؤخرة فلا تحصل على شيء ولولا تآخي المنكوبين لهلكت.
أشارت لنا الأيدي… أيدي الأطفال الذين تجمهروا حولنا حفاة عراة مشعثين… يبدو الذهول في أعينهم البريئة الجميلة، وبلهجة لبنانية رقيقة قالوا:
– هناك في تلك الخيمة امرأة أخرى… إنها أشدنا بؤساً نرجوكن مساعدتها… ذهبنا إليها… إنها امرأة شابة على ذراعيها طفل لا يتجاوز الأيام العشرة… هزيل… نحيل ومن حولها كومة من الأطفال هربت بهم من القصف وهي حامل في الشهر التاسع.
قالت بصوت ضعيف:
– ما حيلتي؟ أنا لولا هؤلاء – وأشارت إلى الأطفال – لما غادرت بيروت… أبداً.. هربت بهم من قنابل الصهاينة… تلك القنابل التي صنعت خصوصاً للأطفال. زوجي وأهلي لا أعلم عنهم شيئاً.
قلنا لها هذه هدايا الاستعمار للشعوب، قالت:
– أنا أعلم أنها أمريكا عدوتنا جميعاً فإسرائيل لا تقدر على شيء لولا الدعم الأمريكي… الأسطول السادس يساعدهم. ليس هذا فقط السعودية تتآمر معهم… كل الدول العربية الرجعية… ولكننا سننتصر رغم ذلك. إن القوى المحبة للسلام جميعاً إلى جانبنا وصديقنا الاتحاد السوفييتي لن يتركنا … إنه نصير الشعوب.
أعجبنا بتحليلها السليم وصفاء ذهنها وهي تمر بهذه المحنة القاسية.
أمسك بنا صبي في الثالثة عشرة من عمره جميل رغم ثيابه البالية وقدميه الحافيتين، قال:
– أنات من برجا، لقد طوق الإسرائيليون بلدتي. كنت أنا وجدتي في بيروت ولم نستطع العودة إلى برجا. ووجدت نفسي مع جدتي في دمشق.. هنا لا يعترفون بنا كأسرة، ماذا نعمل؟ نحن نقيم في خيمة واحدة مع أسرة أخرى، نرجو مساعدتنا.. إني مصمم أن أعود إلى بلدتي وسأنضم إلى صفوف المحاربين.
وتسارع إلينا الناس من كل الخيام، لم نر ضرورة أن نمر بكل خيمة… هنا امرأة من صيدا تروي لنا قصة الصمود والبطولة والفداء وهناك طفل من النبطية تبدو على وجهه علائم التصميم وهذه شابة من الدامور، وهذه فتاة من بيروت تقول لنا بلهجتها البيروتية العذبة:
– تعالوا إلى منزلنا في بيروت وسنكرمكم كثيراً – نحن نحب السوريين – كانت تقف فوق التراب الملتهب بأشعة الشمس ترفع رجلاً وتضع أخرى من وهج الحرارة التي تحرق قدميها العاريتين الرقيقتين.
من كل خيمة أطلت علينا مأساة وفي كل وجه تلمسنا فداحة الجريمة إنها جريمة واحدة من جرائم الاستعمار الكثيرة…
قلوب محترقة وأنفاس محترقة يجمعها ألم واحد مصدره واحد، إنه الاحتلال، ذاك الجاثم على رصد لبنان. يجمعها أمل واحد، أن تلتقي أيدي الشرفاء أيدي العمال والفلاحين البسطاء أيدي الكادحين أيدي الوطنيين والتقدميين جميعاً لتفوق عباءة الاحتلال وتلقي بها في هاوية الفناء.
أصبحنا الآن في وسط المخيم وقد اجتمع إلينا الرجال والنساء والشيوخ والأطفال… كل يوضح لنا حالة ويشرح مأساته التي تعبر عن مأساة شعب خانته سلاطين النفط وعبيد الدولار.
وحان وقت الانصراف… فما راعنا إلا سيارة (سيترن) تقف على مقربة من المخيم وقد سارع الناس إليها.. وعرفنا مباشرة أن صاحبها يبيع الماء للمشردين… كل (طست) بليرة سورية. عجبنا كيف يمكن أن يجود هؤلاء بدماء أبنائهم وبناتهم وأزواجهم وزوجاتهم ونبخل عليهم بصنبور من ماء الفيجة التي تروي كل عطشان.