هكذا ببساطة يطلق الحكم جاهزا على نساء سورية، بدقيقة واحدة، وب “الإجماع”، تسلب نساء سورية حقوق المواطنة، دون محاكمة عادلة، فالمواطنة هي مساواة جميع المواطنين بالحقوق والواجبات بغض النظر عن جنسهم وعرقهم ودينهم.
كان الحكم جاهزا مسبقا، والحجة كما عهدنا دائما، لأن ذلك مخالف للشريعة الإسلامية، هكذا وبجملة واحدة باردة بسيطة جاهزة كما وردت في الخبر الذي أعلنته وكالة الأنباء السورية “أعلن رئيس مجلس الشعب تأكيد المجلس بالإجماع على التحفظات الواردة بالمرسوم 330 على اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة السيداو كما وردت” والتي تعفي سورية الموقعة على الاتفاقية من إي التزام بتغيير قوانينها وأنظمتها النافذة، التي تحمل تمييزا ضد المرأة، رغم وجود دراسة فقهية من أحد أعضاء مجلس الشعب تثبت أن تطبيق مواد الاتفاقية لا يخالف الشريعة الإسلامية، ولا أدري ما كان رأيه، عندما حدث ذلك “الإجماع”، وكذلك ماذا كان رأي السيد مفتي الجمهورية الذي أعلن في أكثر من مناسبة عدم تعارض مواد الاتفاقية مع الشريعة الإسلامية..
تأملت ذلك الخبر بذهول، وسخرت من نفسي، عندما حاولت في قبل أيام أن أقنع بعض نواب ونائبات مجلس الشعب بتبني عريضتنا المطالبة بإلغاء تلك التحفظات، ولم أكن ادري أنهم سيقرونها ب”الإجماع”. ذلك “الإجماع” أثار في نفسي أسئلة عديدة: هل يعرف هؤلاء النواب فحوى الاتفاقية؟ هل لدى النائبات الإحدى والثلاثون فكرة عن المواد المجحفة بحقهن في قوانين الأحوال الشخصية والجنسية والعقوبات، والتي لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالشريعة الإسلامية ومقاصدها العادلة، والتي تدعو تلك الاتفاقية إلى استبدالها بمواد عادلة تجاه المرأة؟ هل بذلت إحداهن جهدا ما لدراسة بنود هذه الاتفاقية، ومبررات التحفظات التي وضعت عليها؟ هل حاولت أحداهن أن تقرأ بعض الدراسات التي تثبت أن تغيير كل القوانين المجحفة بحق المرأة لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية؟ لا أستغرب أن كثيرين من أعضاء المجلس ليس لديهم أي فكرة عن كل ما سبق، ففي الملتقى الوطني حول جرائم الشرف الذي عقد قبل أيام، والذي ضم قانونيين ومشرعين وعلماء دين ومسؤولين وناشطين ومهتمين، أجمع غالبية الحضور على ضرورة تغيير بعض مواد قانون العقوبات، التي تبيح قتل نساء من أفراد أسرهم لمجرد الشبهة في تصرفاتهن، أو زواجهن من غير طوائفهن.
ورغم أن تلك القوانين وضعية ومستمدة من القانون الفرنسي قبل أكثر من 150 عاما، وجد نواب من مجلس الشعب قفزوا من فوق مقاعدهم، وصاحوا بملء الصوت، لا نسمح بأي تغيير يمس الدين الحنيف، وسط دهشة الحضور، وكأنهم لم يستمعوا ولم يصغوا، ولم يستوعبوا كل الآراء التي قيلت في الملتقى، والتي أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه المواد لا علاقة لها بالشريعة الإسلامية مطلقا، إذا لم نستغرب أنهم وافقوا على التحفظات ” بالإجماع”؟؟؟؟ ولكن من ناحية أخرى كيف أقرت التحفظات ب”الإجماع” ولم يجر أي تصويت عليها، حسبما رشح من أخبار؟ ألا يستأهل قرار يتعلق بحيواتنا وحرياتنا وحقوقنا كمواطنات في هذا البلد فرصة للمناقشة والتصويت؟ ولم لم يعترض أحد على هذا “الإجماع” ؟هل اعتبروا أن تلك الاتفاقية غير هامة؟ أم أنهم لم يكونوا معنيين بمعرفة فحواها أصلا؟؟؟؟؟ ولمن غاب عنه معرفة اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة ( السيداو)، فهي اتفاقية دولية وقعت عليها سورية بمرسوم تشريعي حمل الرقم 333 و صدر بتاريخ 26/9/2002 أعلن انضمام سورية إلى هذه الاتفاقية، إلا أنه أرفق ذلك بتحفظات على بعض بنود الاتفاقية نسفت محتواها بالكامل.
يرد في مقدمة الاتفاقية أن الدول التي تصادق عليها ملزمة ليس فقط بشجب جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وإنما باتخاذ الإجراءات المختلفة للقضاء على هذا التمييز، وأن عليها كذلك تجسيد مبدأ المساواة في دساتيرها الوطنية أو قوانينها الأخرى، وتبني التدابير التشريعية بما في ذلك الجزائية منها، والامتناع عن الاضطلاع بأي عمل أو ممارسة تمييزية ضد المرأة، وكفالة تصرف السلطات والمؤسسات العامة بما يتفق وهذا الالتزام ، واتخاذ جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة من جانب أي شخص أو منظمة أو مؤسسة، والعمل على تغيير الأنظمة والأعراف والممارسات القائمة والتي تشكل تمييزا ضد المرأة . ويمكن تلخيص المواد التي تحفظت عليها سورية بما يلي :
المادة 2: التي تتضمن تجسيد مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الدساتير الوطنية والتشريعات والقوانين، وضمان الحماية القانونية لها من أي فعل تمييزي يصدر عن منظمة أو مؤسسة أو شخص، والعمل على تبديل القوانين والأنظمة والأعراف بما يتناسب مع ذلك.
و المادة 9 فقرة 2 : المتعلقة بمنح المرأة حقا مساويا للرجل في منح جنسيتها لأطفالها .
والمادة 15 فقرة 4 : التي تمنح المرأة حقا مساويا للرجل فيما يتعلق بالقانون المتصل بحركة الأشخاص وحرية اختيار محل سكناهم وإقامتهم .
والمادة 16 بند 1، فقرات ج، د، و، ز : التي تمنح المرأة حقوقا مساوية للرجل في الزواج والطلاق والولاية والقوامة والوصاية،كذلك الحق في اختيار اسم الأسرة، والمهنة، والوظيفة .وتحديد سن أدنى للزواج، وتسجيله إلزاميا .
كما تحفظت سورية على المادة 29 فقرة 1: المتعلقة بتحكيم أي خلاف ينشأ بين دولتين فيما يتعلق بهذه الاتفاقية .
لقد ألغت تلك التحفظات وبخاصة على المادة 2 اي التزام من قبل الحكومة السورية بتغيير أي من تشريعاتها وقوانينها التمييزية ضد المرأة، وتتطابق هذه التحفظات مع مواد قوانين الأحوال الشخصية والجنسية والعقوبات في القانون السوري المجحفة بحق المرأة و تتعارض أصلا مع المادة 25 من دستور الجمهورية العربية السورية التي تساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، والمادة 45 التي تكفل للمرأة مساهمتها الفعالة والكاملة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
لابد من التذكير هنا أن المواد المجحفة بحق المرأة في قانوني الجنسية والعقوبات مستمدة من القانون الفرنسي ولا علاقة لها بالشريعة الإسلامية. وقد استند المشرعون في إقرارهم المواد التي تحمل تمييزا ضد المرأة في قانون الأحوال الشخصية إلى حجة أنها مستقاة من الشريعة الإسلامية، رغم أنها تستند في معظمها إلى آراء فقهية تختلف من مذهب فقهي إلى آخر، بتعديلات بسيطة على القانون الذي كان مطبقا منذ عهد الإدارة العثمانية، في حين أقر الإسلام للمرأة حقوقها الأساسية، إنسانا كامل الأهلية، مساويا للرجل في الأهلية و المسؤولية التكليف والثواب والعقاب، في أكثر من ستين آية من آيات القرآن الكريم منها: “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” ” المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ” فالإقرار بحقوق المرأة ينسجم تماما مع روح الشريعة ومقاصدها الإنسانية في العدالة . فهل الشريعة الإسلامية فعلا هي العائق أمام حصول المرأة على حقوقها؟ إن أغلب هذه التحفظات والتي تنطبق على النصوص القانونية المجحفة بحق المرأة برأي الكثير من المسلمين المتنورين منذ عصر النهضة وحتى اليوم، لا تتطابق وجوهر الإسلام، بل استندت إلى نصوص فقهية أكسبها الزمن قوة تفوق قوة النص الأصلي، هذه النصوص التي كانت العوامل السياسية والظروف الآنية هي العامل الأول في تكريسها حتى باتت قدسيتها تفوق المقدس، فقد اعتمد كثير من الفقهاء على نصوص تعبر عن حكم وقتي، أو تصف وضعا راهنا كان قائما وقت بدء الدعوة، وغيبوا مجموعة أخرى من النصوص تناقضها.
كما أن تناقض الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بموضوع المرأة دليل على اقتطاع الحديث من سياقه المتعلق بحادثة معينة لتعميمه كحكم صالح لكل زمان ومكان . وإن إعطاء الإجماع صفة قدسية، وهو اجتهاد بشري، وتكريس سلطة كهنوتية تحكم باسم رجال الدين، و بتر الآيات من أسباب التنزيل، وخلط الشريعة والفقه، وعدم موافقة المنقول للمعقول، هو الذي أوصلنا إلى قانون أحوال شخصية مجحف بحق المرأة، وعدم الجرأة على تغييره بحجة تعارض التغيير مع الشريعة الإسلامية، وقاد بالتالي إلى التحفظات المذكورة على اتفاقية السيداو . لقد قام المشرعون بإدماج القوانين والأعراف والممارسات الاجتماعية السابقة، والتي لم يتعرض لها الإسلام بالنهي والتحريم، داخل بنائهم الفقهي، ليتمكنوا من إقامة بناء قانوني كامل، واستخدموا مبدأ القياس، الذي أصبح بعد القرآن والسنة والإجماع مصدرا من مصادر التشريع، وكتبت الآلاف من الكتب الفقهية التي اعتمدت على التأويل والتأويل المضاد، وثنائية العموم والخصوص، وثنائيات الناسخ والمنسوخ والتي أنتجت غالبا المعنى ونقيضه ودخل الفرد المسلم في دوامة، جعلت من فهمه لدينه مسألة معقدة، لا يجوز له التفكير فيها فكان لابد له من إلغاء عقله تماما واستعارة عقل احد الفقهاء ليدله على أحكام دينه، بل ليتهم كل من يستخدم عقله ثانية للوصول إلى اجتهاد مخالف للآراء الفقهية التقليدية بالكفر والهرطقة والمروق، رغم أنه يستقي مصادره من الشريعة نفسها. وهنا لابد من اعتماد نهج جديد في قراءة الأحكام الدينية. معتمدين النسبية والتاريخية لتفسير الأحكام، واستنباط الجوهري الثابت وراء العارض والمتغير، وقد ألزم تغير الأحوال في عهد عمر بن الخطاب التغيير في الأحكام، بل حتى في الحدود، فما يصح من أحكام الأحوال تذهب بذهابها، فالمقصد الأساسي من التفسيرات هو العدل ومطابقة الحكم للحال الراهنة وجوهر الإسلام، مع رفض التأويلات الإيديولوجية النفعية للنصوص الدينية .
إن ما يمنع تعديل هذه القوانين هو العقلية الذكورية البطريركية، التي سبق أن قبلت بتغيير الحدود في قانون العقوبات كحد السرقة و الزنى والقتل، في حين تقوّم الدنيا ولا تقعدها إذا طالب أحدهم بتعديل مادة واحدة مجحفة بحق المرأة، حتى لو كانت من قانون وضعي لا علاقة له بالشريعة الإسلامية. لقد أثارت التحفظات التي وضعتها سورية على الاتفاقية حفيظة الكثير من الناشطين والمهتمين والمدافعين عن حقوق المرأة، ما قادهم إلى دراسات متعددة تؤكد عدم تعارض مواد الاتفاقية مع الشريعة الإسلامية، وذلك ما خلصت إليه الحكومة السورية بعد تكليف العديد من اللجان المختصة التي ضمت قانونيين وخبراء ورجال دين أوصوا برفع عدد من التحفظات، لعدم تعارضها مع الشريعة الإسلامية، نتج عنها موافقة مبدئية من الحكومة على إلغاء تحفظاتها على المواد 2، 15 (4)، 16، (1) خ و16(2). وحين قدمت الحكومة السورية تقريرها الأولي أمام لجنة “سيداو” المخولة من الأمم المتحدة خلال جلستيها 787 و788 المعقودتين في 24 أيار2007 اخبر الوفد الحكومي اللجنة قرار الحكومة السورية بإلغاء التحفظات المذكورة، وبذلك التزمت الحكومة بإلغاء تلك التحفظات، فاستبشرنا خيرا، رغم أن رفع التحفظات كان جزئيا، وانتظرنا تثبيت ذلك الإلغاء رسميا، وهذا ما كنا نتوقعه من الجلسة التي كان مقررا أن يناقش بها مجلس الشعب التحفظات، لنفاجأ بتلك الصاعقة البرقية التي نزلت فوق رؤوسنا، مستهينة بنضالاتنا ومطالباتنا وحقوقنا، هكذا بجرة قلم، دون حساب لمعاناة ملايين النساء اللاتي يرزحن تحت وطأة قوانين مجحفة، وممارسات اجتماعية تمييزية ضدهن. ناموا يا نواب مجلس الشعب وضمائركم كما دوما مرتاحة في سباتها الطويل، واتركونا نحن وربنا لنقاتل، ضد الظلم، وضد القهر، وضد الإجحاف والجهل والعمى، فحقوقنا لن تموت ما دمنا لن نتوقف عن المطالبة بها. د. مية الرحبي