نقاب وإعلام وضجة
يكثر الحديث في الإعلام هذه الأيام عن النقاب كظاهرة تستوجب الحل من قبل الحكومات وعن ضرورة وضع حدا لانتشار هذه البدعة. كما حصل في فرنسا التي أصدرت قانونا يمنع وضع النقاب في الأماكن العامة تحت طائلة الغرامة. وكما تم في سوريا أيضا استبعاد المنقبات من التدريس في المدارس ومن دخول الجامعات بالنقاب ….فلماذا أصبح النقاب ظاهرة تستوجب الحل ..؟؟!! وهل النقاب هو جزء من الثقافة الإسلامية كما يدعي المقتنعين به ….؟؟!!
في المصدر الوحيد للتشريع الحياتي الديني (القرآن الكريم) لم تذكر كلمة نقاب أو أي كلمة أخرى تحمل نفس المعنى , حتى كلمة حجاب فسرت تفسيرات مختلفة عن المقصود بها ولكن لن ندخل هنا في بحث موضوع الحجاب الإشكالي وسنكتفي ببحث موضوع غطاء الوجه الذي هو جزء من موضوع اللباس بشكل عام والذي يراه الباحثون بأنه جزء من ثقافة المجتمعات التي تكونت من جراء تأثيرات عوامل الطبيعة على الإنسان ففي أفريقيا حيث الحرارة العالية والرطوبة والأمطار الصيفية والأشجار الكثيفة نجد أن الكائنات الحية الآدمية هناك متحررة من الملابس التي يلبسها أهل المدن والتي تكونت نتيجة حضارة معينة كالالتزام في البيوت المحمية من عوامل الطبيعة والتي نشأت فيها قصة اللباس بأشكال حديثة تعتمد الخياطة والتفصيل، والتي ساعدت على خلق ظروف يستطيع فيها المرء التحرر من الملابس حين يشاء باعتبار أنه محمي داخل تلك البيوت وبدأ التفنن باللباس بأشكال متعددة تزداد تفننا يوما بعد يوم . بينما نجد أنه في الصحراء الأفريقية (الطوارق) ينقب الرجال نتيجة ظروف الحياة التي تعرضهم لغبار الصحراء بشكل كبير بينما النساء يظهرن وجوههن حتى أصبحت تلك الحاجة عرفا لا يمكن تغييره وإلا يعتبر حدثا معيبا في حق الرجال الذين لا تعرف وجوههم حتى لنسائهم … هنا نجد أن النقاب ليس مطلب ديني وإنما هو حاجة اجتماعية عند بعض الأشخاص قبل دخول الحضارة إلى المجتمعات والتي تتطلب تعاملا جديدا معها. وما يؤكد ذلك هو قرار المنع الذي أصدره الوالي العثماني للنساء في دمشق من تغطية وجوه النساء حتى لا يتشبهن بنساء الوالي الذين يجب أن لا يكن معروفات من عامة الشعب. فلماذا عاود النقاب الظهور من جديد بعد عشرات السنين من خلع الملايات والمناديل التي كبلت بها المرأة في المدينة حصرا …؟؟!!!
عند سؤالي بعض المنقبات عن سبب نقابهن قالت إحدى السيدات اللواتي تسكن منذ خمسة عشر سنة في أمريكا إنني ارتدي النقاب فقط عندما أكون متجملة وأضع بعض المساحيق وأنا ذاهبة إلى حفل ما، فالدين يمنعني من إظهار زينتي إلا لزوجي أما في الأيام العادية فأنا ارتدي الحجاب والعباءة دون تغطية وجهي. وعندما سألتها أليس الحجاب في أمريكا هو مسألة صعبة في تلك الأجواء البعيدة عن الجو الإسلامي والتي ليست معتادة على هذا النمط من اللباس أجابت السيدة بأنها مضطرة للتمسك بهذا النمط من اللباس كنوع من الحماية لها ولابنتها التي ستكبر وستأخذ الطابع الغربي في التعامل عاجلا أم أجلا وبذلك تكون قد قطعت عليها الطريق وألزمتها بالتدين والاحتشام، ففي تلك البلدان إما أن تكون منفتحا وتقبل بكل القيم الغربية كما هي حتى لو لم تكن متناسبة مع قيمنا العربية، أو أن تكون متشددا في القيم الدينية المتزمتة وتحافظ على هوية ودينية وعربية، وبذلك تختار معظم تلك الأسر التي تعيش في الغرب أن تتشدد في لباسها لأنه عنوان يحدد ويؤطر تصرفها مع الآخرين، وتصرفات الآخرين معها، فتحمي نفسها من الاندماج في ثقافة ليست لها وعادات وتقاليد غير مريحة وغير مقبولة. أما عن إحدى السيدات اللواتي يضعن الخمار على وجوههن في سوريا فقد دافعت عن رأيها بأن النقاب مدعاة للفتنة ومن يرتدينه يكن غير متدينات ويسئن إلى الدين لأنهن يظهرن مفاتن عيونهن فيلفتن الأنظار إليهن، لذلك فالخمار هو استر للمرأة لأنه يخفي مفاتنها كلها … هذه السيدة مؤمنة بما تفعل لأن شيخا ما قد اخبرها بأن هذا رأي الأئمة الذين يفهمون الدين ويريدون صلاح الأمة. سيدات كثر أمثال تلك السيدة ورجال كثر أمثال زوجها يصدقون بأن الله أمرهم بأن يحجروا النساء داخل صومعة سوداء رغم أنهم يسمحون لهم بقيادة سيارة أو الدراسة أو العمل معتقدين بذلك أنهم يطبقون شريعة الله هؤلاء هم أنفسهم يتحررون من ملابسهم في المنزل ويتزينون ولكنهم يتحجبون عندما يدخلون المرحاض بينما يخلعون ملابسهم عند الاستحمام ….!! والبعض منهن يؤمن فعلا بأن غطاء الوجه هو واجب ديني في تلك المرحلة بالذات، وهو رد الفعل الطبيعي لما آل إليه المجتمع من فساد وانحلال خلقي. فبعد أن خلعت المرأة غطاء رأسها خلعت بعده الكثير من الملابس وبدأت تتفنن في إظهار مفاتنها وفي إغراء الرجال وشدهم إلى الرذيلة، وساعد الإعلام في تكريس تلك الأفكار بعدة طرق: منها ظهور بعض المذيعات بشكل غير لائق شكلا ومضمونا، وخصوصا في بعض المحطات التي تعتمد على الاتصالات … وكذلك حالات الغناء التي تحولت إلى غنج وإغراء وإثارة … وتسليط الضوء على العاهرات والمومسات في الدراما العربية … وإظهار الفتيات العاريات الرأس أو فتيات المدارس والجامعات بأنهن زانيات .. كل ذلك جعل فكرة النقاب تترسخ في أذهانهم لحماية أنفسهم من الانحلال.
وبعض السيدات ممن يضعن غطاء الوجه يضعنه من أجل أزواجهن لأنهن في بيئة تحتم عليهن تغطية وجوههن، وخاصة الصبايا الصغيرات والمتزوجات حديثا في بعض الأماكن من ريف دمشق. أو من أجل ذكور العائلة حتى لا يتعرضن للعنف من قبلهن، وخوفا من حرمانهن من التعليم والحركة خارج إطار المنزل، والبعض من المنقبات يعتبرنه موضوعا شخصيا لا يجب التدخل به … فهل غطاء الوجه هو موضوع شخصي فعلا ولا يجب التدخل به ؟؟ يدافع البعض عن غطاء الوجه باعتباره مسألة شخصية لا يجوز التدخل فيها .. ويقولون بأن القرارات الحكومية لمنع غطاء الوجه هي قرارات قد تظلم البعض وقد تحرمهن من التعليم أو العمل وخصوصا لمن يرتدينه تحت ضغط من ذكور العائلة. أو حتى بعقيدة راسخة فهل يمكن أن نتعاطف مع هذا النوع من التوجه الذي يشد المجتمع إلى عصور الملايا قبل مئة سنة من الآن وننسى حقوق المرآة الأخرى التي تنهض بوضع المرأة وتعتبرها إنسانا كامل الأهلية، له الحق في رؤية الحياة بألوانها الطبيعية دون لجام يجعل الحياة بلون واحد واتجاه واحد. وممارسة هذا النوع من اللباس يكرس مبدأ الجندر ويؤكد على التمييز بين الجنسين وبالتالي يحدد نظرة الرجل للمرأة على أنها أنثى بمعنى الفتنة والإثارة وليس بمعنى الإنسان الذي يحمل وجهي العملة لذلك يعتبر تدخل الدولة ضرورة اجتماعية لابد منها ولكن هل يكفي ذلك؟؟ هل تكتفي الدولة بعلاج النتيجة دون معالجة السبب ؟؟؟؟
القوانين والنظام هي أحد الأسس التي تساهم في تغيير المجتمعات وتطورها أو تراجعها، تهيئة المجتمعات بالتربية السليمة هو أهم عنصر للتغيير، ولكن ثمار التربية لا تؤكل إلا بعد حين، وتحتاج الكثير من الوقت. ومن أهم طرق التربية السليمة تنشئة الأجيال على مبدأ الاعتدال والفهم السليم للأديان من دون تطرف تطبيق التعليم الإلزامي وتهيئة كوادر مثقفة للقيام بعملية التربية على أسس تحترم المرأة باعتبارها إنسان وليست أداة للجنس. تحسين صورة المرأة في الإعلام بحيث تكون المرأة التي تظهر على الشاشة محتشمة ذات إمكانيات ثقافية جيدة بعيدة عن الابتذال، والتركيز على إظهار صورة النساء القائدات والمناضلات والعاملات، من خلال البرامج ومن خلال الدراما بدل إعطاء صورة عن المرأة بأنها مصدر للفساد والإغراء، منع دروس الدين في البيوت التي هي في حقيقتها تسيء إلى الدين لأن القائمات عليها يكن غالبا من النساء غير المؤهلات. كذلك تحويل الدروس في الجوامع إلى دروس اجتماعية تفيد في بناء الأسرة وتعلي ثقافتها الحياتية وتكون دروسا موجهة وموحدة للجنسين تتعلق بأمور التربية والعناية بالطفل والعناية بالشريك والأهل والجيران، الإسعافات الأولية وكيفية العناية بصحة الأسرة، وضع ميزانية الأسرة والاستفادة من الموجودات بدل رميها (التدبير المنزلي). الحض على التعليم العالي أو المتخصص، والمساعدة بإعطاء دروس مجانية للذين لا يملكون المال، وخصوصا في مرحلة التعليم الإلزامي. وأذكر بان قانون منع التدخين هو قانون مهم وحضاري ولكن عدم تطبيقه على أرض الواقع جعله يفقد مصداقيته، ومن دون توعية حقيقية لم يصل إلى أذهان الناس ومن دون مساعدة الإعلام في عدم وضع دعايات للتدخين عن طريق الدعاية المباشرة أو عن طريق الدراما لن نصل فيه إلى أي نتيجة …!!! وكذلك قانون منع النقاب وغيره من القوانين …. وعلى هذا المقاس نقيس.